النجاشى- أصحمة بن أبجر ... التابعى الذى أسلم وخطب للرسول ولم يره قط


"ملك لا يظلم عنده أحد" (حديث شريف)
"اما مات النجاشى كنا نتحدث أنه لا يزال يرى على قبره نور.." (عائشة أم المؤمنين)

   

ما معنى النجاشي وعلاقة الحبشة بالعرب؟

"النجاشى" هى لقب قديم مساوى للقب أمبراطور فى مملكة أكسوم (وهى الحبشة عند العرب) ويطلق على الحاكم أيا كان أسمه.  وهذا اللقب يشبه لقب قيصر عن الرومان ولقب كسرى عند الفرس.
وكانت الحبشة (شرق أثيوبيا وأريتريا حاليا) من أقوى أمبراطوريتين تدينان بالنصرانية وقت بعثة النبى بجانب الأمبراطورية الرومانية وكانت كنيستها من الكنائس القديمة والمعروفة تاريخيا.
ومن المعروف أن أحد نجاشى الحبشة القدماء -وهو طبعا غير المذكور هنا- هو من أحتل اليمن أنتقاما لحرق المؤمنين من النصرانيين -أصحاب الأخدود المذكورين فى القرآن- وكان أبرهة الأشرم -الذى حاول هدم الكعبة- حاكم اليمن تابعا لهذا النجاشى وهذا فى عصور ما قبل البعثة النبوية.

أسمه 

أصمحة بن أبجر هو الأسم الذى ذكره العرب نقلا عن لغة الأحباش.

الفتى يتولى الحكم بأمر الله

كان أبو أصمحة نجاشى الحبشة وكان هو ولده الوحيد فأتفق أعيان المملكة على قتله ليولوا عمه كثير الأولاد ليضمنوا أستمرار الحكم ثم أشاروا على عمه أن يتخلص منه وهو مُكره فبيع كعبد.
وفى حادثة غريبة أصيب عمه بصاعقة لم تصب أحد ممن حوله وبعد الوفاة المفاجأة لعمه أدرك الناس أن الله غضب عليهم ولم يجدوا غيره ولا خير فى أبناء عمه وكانت المملكة فى خطر من أعدائها فحرروه ونصبوه نجاشيا.
وكان عمره حين تولى الحكم 9 أعوام فقط. وبعد توليه الحكم نشر العدل بين الناس وذاعت شهرته كأحكم وأعدل الملوك فى وقته وأكثرهم تقوى. 

هجرة المسلمين الأولى  إلى الحبشة 

في السنة الخامسة للبعثة ومع اشتداد العذاب الذي لَقِيَه المسلمون من المشركين في قريش، قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- 
«لو خرجتم إلى أرض الحبشة؟ فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي - أرض صدق - حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه»
وأمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة فهاجر أول فوج إلى الحبشة في تلك السنة، وكان مؤلفًا من 12 رجلًا و4 نساء، ومنهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله،  فوصلوا إلى الحبشة ولقوا ما لقوا من الكرم والأمن والأمان وحفاوة الاستقبال في تلك البلاد، وملكها النجاشي. 
 

الهجرة الثانية  إلى الحبشة 

بلغ المسلمون فى الحبشة أن حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب قد أسلموا كما بلغهم الحادث الشهير حينما سجد سادة قريش مع المسلمين حينما سمعوا سورة "النجم" يتلوها النبى فظنوا أن قريش أسلمت فعادوا لمكة.
لما تبين لهم أستمرار أيذاء قريش أذن الرسول بالهجرة مرة أخرى فهاجر 83 رجلاً و 19 امرأة وكان على رأسهم جعفر بن أبى طالب (الطيار) شهيد غزوة مؤتة ابن عم النبى وأخو علىُ كرم الله وجهه .
 

عمرو بن العاص يواجه جعفر بن أبى طالب فى مجلس النجاشى

أرادت قريش أستعادة ضعفاء المسلمين لتنكل بهم فأرسلت إلى النجاشي عمرو بن العاص، وهو "داهية العرب"وكان صديقا للنجاشى قبل أسلامه، وعبد الله بن أبي ربيعة بالهدايا للبطارق ثم للنجاشى حتى يسلمهما المسلمين، 
وقال عمرو: أيها الملك إنه ضوى إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت وقد بعثنا إليك أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليه فهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم.
فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله إذا لا أسلمهم إليهما ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم. 
ثم أرسل الى أصحاب رسول الله فدعاهم فلما جاءهم رسوله اجتمعوا.
فقال ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين احد من هذه الامم. 
قال جعفر بن ابي طالب: أيها الملك انا كنا قوما أهل جاهلية نعبد الاصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف ،
فكنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا الى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنة وأمرنا ان نعبد الله لا نشرك به شيئا وامرنا بالصلاة والزكاة والصيام ،
فصدقناه وآمنا به واتبعناه فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا الى عبادة الاوثان وان نستحيل ما كنا نستحل من الخبائث ،
فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. 

فقال: هل معك مما جاء به عن الله من شيء قال نعم قال فاقرأه علي. 
فقرأ عليه صدرا من كهيعص (سورة مريم):
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا ( 16 ) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ( 17 ) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا ( 18 ) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ( 19 ) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ( 20 ) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ( 21 )  فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا ( 22 ) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ( 23 ) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ( مريم 24 ) 
 فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته.

ثم قال النجاشي 
إن هذا والذي جاء به موسى (وعيسى) ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبدا. 

فقرر عمرو -الداهية- أن يوقع بهم فقال أيها الملك إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولا عظيما -بعنى أنه عبد لله-  
فأرسل يسألهم: ماذا تقولون فى عيسى؟ 
فقال له جعفر: نقول فيه الذي جاء به نبينا "هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول". 
فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ عودا ثم قال: ما عدا عيسى ما قلت هذا العود فتناخرت بطارقته حوله. فقال وإن نخرتم والله. 
وقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي والسيوم الآمنون من سبكم غرم ثم من سبكم غرم ما أحب أن لي دبرى (أى جبل) ذهبا وأني آذيت رجلا منكم.

وأمر النجاشي برد هدايا عمرو وصاحبه :
ردوا عليهما هداياهما فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه.

وهناك من يرجح أن أصحمة كان على مذهب آريوس وهو لا يؤمن بالتثليث أو عبادة المسيح فكان قبوله للأسلام منطقيا. وقد كان رد النجاشى وأسلامه سببا فى أسلام عمرو بن العاص بعد ذلك.
 
إسلام أصحمة
أرسل الرسول -عليه الصلاة والسلام-  رسالة الى الملوك فى عصره ككسرى الفرس وهرقل الروم والنجاشى وكان للنجاشى رسالتين الأول نصها:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة، إني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى حملته من روحه، ونفخه كما خلق آدم بيده، وقد بلغت ونصحت فأقبلوا نصحي، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فأني رسول الله وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بعثت إليكم ابن عمى جعفرا، ومعه نفر من المسلمين، والسلام على من اتبع الهدى»
فأخذ النجاشي الرسالة ووضعها على عينيه، وهبط من سريره وجلس على الأرض تواضعاً وإجلالاً، ثم شهد شهادة الحق وقال: لو كنت أتمكن من الوصول إليه لفعلت.
وإسلام النجاشي أصحمة بالله وبرسوله بعد أن كان نصرانيًا ثبت في الصحيح ودليل ذلك ما سيلى من صلاة النبى عليه.
ويروى أنه أخفى أسلامه عن قومه كيلا يعزلوه ويضار بهذا المسلمين فقد كان ملجأهم ومسؤول عن حمايتهم وهناك قصة عن خروج قومه عليه.
وكان مع هذه الرسالة رسالة أخرى خاصة بطلب خاص للرسول.

تابعى أم صحابى

يعتبر أصحمة بن أبجرتابعياً رغم أنه أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعتبر صحابياً لأنه لم يجتمع بالنبى، فهو من سادات التابعين وأسلم على يديه الصحابي الجليل عمرو بن العاص. 
فصارت لغزاً للحل، فيقال: 
صحابي أسلم على يد تابعي!

   

النجاشى وكيل رسول الله فى خطبة أم حبيبة ونهاية هجرة الحبشة

كانت أم حبيبة بنت أبي سفيان التي هاجرت برفقة زوجها عبيدالله بن جحش، إلّا أنّه ارتدّ عن الإسلام، واعتنق النصرانيّة، ومات عليها وترك زوجته وأبنتها حبيبة لا عائل لهم.
أرسل رسول الله عمرو بن أمية إلى النجاشي برسالتين فلما أجاب الأولى وأسلم أخرج عمرو بن أمية الثانية ، وفيها طلب الرسول من أصحمة أن يزوّجه أم حبيبة وكتب إليه أيضًا أن يبعث إليه من بقي من أصحابه، وكانت قد رأت في منامها أنّ أحداً يناديها بأمّ المؤمنين، ولم يلبث أن تحقّق ما رأته، إذ دخلت عليها الجارية تُبشّرها بأنّ رسول الله يريد أن يَعقد عليها، فوكّلت خالد بن سعيد ليكون وليّها في العقد، وتمّ العَقد بين وكيلها والنجاشيّ -وكيل رسول الله عليه الصلاة والسلام- .فزوج النجاشي أم حبيبة للرسول وأصدقها عنه أربعمائة دينار وحمل بقية أصحابه في سفينتين ووصلوا المدينة العام السابع من الهجرة بعد غزوة خيبر.

وفاته

توفى أصحمة في العام التاسع للهجرة فقال رسول الله  لأصحابه: 
"إن أخاً لكم قد مات بغيْر أرضكم فقوموا فصلوا عليه" قالوا ومن هو؟ قال: النجاشى. 
فخرج بهم إلى الصحراء (وقيل البقيع) وصفهم صفوفًا ثم صلى عليه صلاة الغائب. وهو الوحيد الذي صلى عليه رسول الإسلام صلاة الغائب وسبب ذلك أنه مات بين قوم نصارى وقد أخفى عنهم إسلامه ولم يكن عنده من يصلي عليه. 
وهذا الحديث دليل على إسلام النجاشي وصحة صلاة الغائب في الأسلام لمن لم تقم له صلاة جنازة. 
فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه فأنزل الله تعالى الآية:
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (آل عمران 199)


المصادر
سير أعلام النبلاء (الذهبى)
البداية والنهاية (ابن كثير)
تفسيرالقرآن العظيم (ابن كثير)
صور من حياة التابعين (عبد الرحمن رأفت الباشا)
100 من عظماء الأسلام (جهاد التربانى)
ويكيبيديا العربية

Post a Comment

0 Comments